الجمعة، 8 مارس 2013

ماندورلا... و الرصيف الاخر للعالم .




راوية أحمد الفخراني ( ماندرولا ) تخرج الينا في اطار خلق المؤلف لعالم  افتراضي جديد ، هذا العالم الخيالي الذي اصبح حقيقة ، و الحقيقة التي اصبحت خيال ، في تبادل للأدوار فريد ، في كتابته هناك خطان أساسيان ، خط الواقع المرير ، و خط الخيال المريح ، هذا العالمان ( الخيالية و الواقعية ) يمزجهما في كثير من الأحيان و يعيد تشكيل عالمه الافتراضي في نصه الروائي الجديد .
فبعد ان كانت مملكة من عصير التفاح نص من الخيال الخالص تظهر ماندورلا بالواقعية المؤلمة الكئيبة مضفرة بالخيال ، و خلال اعادة البعث لشخصيات الرواية التي تتأكل و تموت و تبعث في حيوات مختلفة ، يختلط الممتع بالمحزن فلا يظل المؤلم  ممتع (لذة الالم ) و لا يظل الممتع محزن ( الوصول للذروة يفقد المتعة رونقها ) بعدم استمرارها الابدي . و التفريق بين الشعور بالرضي و لذة الاشباع التام .
يقدم المؤلف اعادة حكي او يلعب بالكتابة مستخدما العديد من العوالم الافتراضية المعروفة و يوظفها في مخيلة شخصيات الرواية او في واقعها فيعيد كتابة الاساطير القديمة و حكايات ما قبل النوم و عالم الانترنت و اعادة حكي مختلف الافلام و شخصيات كورة القدم الشهيرة ،  و عالم الاحلام  ،يبحر في خيالات متعددة فينتقل من ذهول الطفل امام افلام الكرتون الي ذهول الناضج امام ابحاره في (( الفراغ السيبري )) و غرقه في بحور المعلومات اللامتناهية و هو جالس علي حافة (( وادي السليكون )) ، و يستخدم كل ما يذهب  اليه البشر هروبا من واقعهم المرير و يعيد كتابته و تشكيله برؤية واقعية مريرة ، فيصبغ الخيال بألم الواقع فلا ينتصر للخير علي حساب الشر و لا يترك الشر ينتصر كما في الواقع ، بل يقدم تلك الصورة الرمادية التي تتوه فيها بين الابيض و الاسود فلا تعرف ايهما صحيح او ايهما منطقي او ايهما الابيض و ايهما الاسود ، فالحس الفلسفي الخفي بين ثنايا النص ملتوي و غاضب و يرفض الافصاح عن نوعه فقط يصرخ بألمه من مرارة الحياة و محاولة خلق عالم مواز افتراضي يمتزج بالواقع فيختلط الخيال به و تتوه بينهم ، (( الفضيلة أفضل غطاء للشياطين ، الرزيلة أفضل غطاء للملائكة )) ، (( تحليل سطحي و معلوماتي غير دقيق الحياة اكثر عمقا من ذلك )) ، الخيانة (( لا احد يقرر ان يمتلك العالم دون قليل من الخيانات ))
المتاهة في الرواية عنصر اساسي متاهة الدخول الي عالم ماندرولا الخيالي ، مدينة خيالية ابتدعها احد شخصيات الرواية ليتوه بها الجميع و تتبادل الادوار في ملحمة محيرة للقارئ فلا يتذكر سوي من تعليقات الرواي العليم في مخاطبته المباشرة للقارئ بان هناك تبادل للادوار يحدث ، بل يوضح احيانا (( متاهتك تداخلت مع متاهتي )). و يقدم طقس قطع الاذن اليمني كبداية الدخول الي متهة ماندورلا .
و يخرج في بنائه للرواية عن التسلسل الزمني للاحداث و لكن يعتمد مجموعة من القفزات الي الامام و الخلف و يستخدم في بعض الاحيان اسلوب الكولاج فيجمع قصاصات اعادة حكيه ليشكل جزء من الحكاية مجمل ليصل للحكاية الكلية ، و قد يربط المؤلف عقدة الحكي ليعيد فكها و ربطها من جديد و تتعقد كأنها خيط فار من بكرة غزل ، لتخرج حكايته متاهة او اعادة غزل للكثير من الحكايات او يتعقد غزل الحكاية من المؤلف ، ليوضح (( الامور ليست بتلك البساطة و ان الخيارات المعقدة تحرمنا احيانا من السيطرة علي الحياة )) فبينما الواقع ملئ بالصدف لا يسمح للخيال بارتكاب الصدف لانه  وقتها سيصبح خيال غير واقعي فالصدف تحدث في الواقع فقط و لكنه يستخدمها في الخيال ليكسبه بعض من الواقعية فالفرق بين الحقيقة و الخيال ان علي الخيال ان يكون معقولا و منطقيا حتي تستطيع تصديقه و لكن الواقع غير معقول فعندما يكسب الفخراني خياله لا معقولية يعطيه حسا واقعيا .
و كثيرا ما يستخدم الراوي العليم ليبرر ما يقوم به شخصيات الرواية او يوضح شئ ما او يذكره بابدال الادوار او باصل الحكاية بل يصل الي ان يخبر القارئ (( اختر التعبير المناسب او اخترع واحدا مناسبا )) ليصنع تبادلا معرفيا بين القارئ و نص الرواية فيمنح فرصة اختيار اللفظ المناسب او (( لا يمكن التحكم في شخصيات روايتك )) ، او علي لسان الماما (( لا تأخذ الامور بحساسية نحن فقط نلعب )) . أو ان يتحدث عن المبرر الدرامي الذي يفتقد للمنطق و القوة  (( فيما بعد سأعرف ان الحياة لا تستلزم تنقلاتها اسباب درامية مقنعة ، فالهواجس ، الظنون ، الحر الشهوة ، الملل ، الصدفة ، الغرور ، الصداع ، الرغبة في الخلود ، لدغة بعوضة ، كلها مبررات قادرة علي تحريك الاحداث ، رغم انها ايضا مبررات درامية غير مقنعة )) .(( الكتابة هي الفعل الاكثر وقاحة في العالم لا يجيده سوى السفلة و الغرباء ))(( لا احد يعي ما يفعل عندما يخط فكرة في كتاب او مخطوطة ))
الوحدة و الاكتئاب يستخدم كثيرا صور الوحدة مع جو من تأمله العنكبوت و معاركه مع الاشباح و بناء بيته و هدمه و طوابير النمل و معاركه لاصطياد فرائسه ، او في نصه (( فصادق الوحدة لانها الشخص الوحيد الذي بامكانه ان يصادق شخصا بلا هيئة . لكن أحيانا تتجلي الوحدة رغم لطفها و طيبتها – كشخص خائن )) .
يستخدم في كثير من الاحيان مفردات لغوية خاصة يستفيد بثراء العامية المصرية للتعبير عن مفردات (( فجة )) او بتعبير الطف سوقية و ان كان استبدلها في كثير من الاحيان بالفاظ منتقبة افقدت المفردة رونقها العامي فاستبدل ( كس ) ب ( فرج ) في عدة مواضع ( فرجها الجائع الذي يبتلع العالم ) بينما في بدايات الرواية كان يحتفظ برونق العامية في مفردات معينة ( سرتنة – ضرب العشرة – بضينة -  و غيرها الكثير ) توظيف تلك المفردات كان موفق لحد كبير و لكن استبدال تداولها العامي المعروف بتفصيحها في بعض المواضع كان موصل للمعني دونما متعة استخدام اللفظ في ذاتها ، تلك المفردات ذات المدلولات الجنسية او (( مصطلح محظور في الحديث العادي مع اشخاص من طبقة اجتماعية معينة او ذوي مسئولية اكبر او يخجل من استخدامها اما محارمه )) يستخدمها بتلقائية في اطار لغة جميلة ، فلا تكون تلك المفردات خارجة عن السياق و لا تكون صادمة بل تتسق مع موضوع الحكي التي استخدمت من اجله خاصة في تبادل الادوار بين الحوريات و العاهرات او في وصف متعة راهبة الاكورديون او في وصف الماما او  غيرها من المواضع المختلفة .اليرجة تسمية احد الفصول ( الطرطرة )
 و اعادة الحكي او اعادة الكتابة لحكايات الاطفال و التي استخدمها كجزئية في كولاجه النصي الجزئي للرواية جزء من مشروعه العام في خلق عالم مواز و استخدمها كثيرا في مملكة من عصير التفاح اما في ماندورلا لا يكتفي باللعب علي الحكايات كيحول ذات الرداء الاحمر الي ذات الحذاء الاحمر او  (   ) الولد الذي لا يكبر ابدا ، او خلق مدينة ماندورلا كاليس في بلاد العجائب ، لكنه يخلق خيال جديد و متعة طفولية اخري كالفرولة التي لا تجلب الحساسية او نافورة الفاصوليا البيضاء ، مما يلعب علي حس القارئ بالحنين الي الطفولة و حكاياتها .
اللا سلطوية  متمثلة في الاحداث في البحث عن الذات و التحقق و مايريده شخصية الرواية من ان يصبح عليه عندما يكبر و تمرده علي ما يفرضه عليه المجتمع او الواقع ، و التحرر من تابوه الدين ، فيحول الاله المغلوب ( البحار التائه ) او ( باباي ) الذي يسعي للتحرر من سجنه و بدء انتصاراته ، بل يستمر في لعبه و يعكس الادوار في العلاقة بين التابع و المتبوع و الاله و الرسول ، ليصبح التابعين الهة و يخلقوا عالمهم الخيالي الخاص ، او حتي يصبح الاله تابع و التابع اله ، و تبادل الادوار مستمر علي طول الرواية احيانا مباشرة او باستخدام حلول جو في جسد شاهر و حلول الماما في جسد راهبة الاكورديون ، او تحول الرسول الي قائد و هكذا
ليكسر قواعد كسر التابوه (( سيدي جوجل الذي حل في كل شئ و حل كل شئ و أحل كل شئ . اغفر لي الهي ))
(( انا اله قتلني جوجل و اتخذ مقعده فوق العرش أنا ياهو رب الارباب سيد محركات البحث و ملك الملوك ))
او ان يستخدم نص كنص مقدس في نهاية الرواية و يمزجه بالسرد و يحدده بخط بارز للانتباه للفرق .
و يستخدم الثالوث الاب ( عبد الجبار )و الام ( الماما ) و الابن الضال ( شاهر / جو ) . او استخدام الموت كبرزخ التراب و النار .و اعتبار الموت حلم جميل
(( فشيدت له الكنيسة و تليت له الصلوات )) .  و استخدام سلطة رب العمل علي العامل في المصنع (( لكل عامل شبح موكل بخصيتيه كتهديد اذا ما قصر او تثاءب )) او استخدام الثورة علي سلطة الماما او سلطة جو فتقدم الماما الطعام و الامان و يقدم جو الحرية و يتبعهم اهل ماندرولا بالتوالي .
 او استخدام الاستهزاء بدلا من الشفقة و الاحترام (( دمعة تبلل اصبعا وسطي كعلامة استهزاء )) .
الجنس في الرواية و استخدامته ليس فقط من اجل المتعة لاشخاص الرواية و لكن كوسيلة للموت و اعادة البعث في حالة جو و علاقته بالكسندرا التي تحل له في جسد نساء فيتحول لرماد و يبعث من جديد ( تلك لعنة الكسندرا تقتله بالمضاجعة و كلما قتلته عاد .. لتقتله من جديد ))، او استخدام الجنس كعامل امتهان للمفعول به كأغتصاب الرجل ( عبد الجبار او عمه او غيره ) كنوع من كسر العين و احيانا وسيلة لكسب المعرفة التي يحصل عليها من ياهو . او كتطهر روحي (( ان النظر الي المؤخرات المهتزة ، هو نوع من الرياضة الروحية التي تطهر نفس صاحبها من الادران المصاحبة لممارسة الحياة )) .
فمندورلا (( مدينة الغرباء و الشحاذين و المجاذيب و العشاق و الحمقي و البنات المجروحات و التافهات و كل من اختلط عليهم النداء و استسلموا للخيوط الرديئة )) تفتح متاهتها للقارئ لينضم لكل هؤلاء او ليخلق ماندورلا الخاصة به .
فتعبر ماندرولا ان متعة الحقيقة ليست في ادراكها بل في تخيل اوجهها العديدة الكاذبة و ان العالم الافتراضي الذي يصنع من اجل الهروب من الواقع ايا كان نوعه هو ايضا ليس كامل و ملئ بالاوجه المتعددة .

ليست هناك تعليقات: